كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَالتَّفَصِّي مِنْ إِسْنَادِ الذَّنْبِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ بِالتَّأْوِيلِ لَيُوَافِقَ الْمَذَاهِبَ وَالْقَوَاعِدَ، كَالتَّفَصِّي مِمَّا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ وَمَا أَسْنَدَهُ إِلَيْهَا مِنَ الْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ الصِّفَاتِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ جَعْلَ بَيَانِ نُظَّارِ الْمُتَكَلِّمِينَ لِحَقَائِقِ دِينِ اللهِ أَفْصَحُ وَأَبْيَنُ وَأَوْلَى بِالتَّلْقِينِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي وَصَفَهُ بِأَنَّهُ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ مَذْهَبٌ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يَفْطُنْ لَهُ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ وَيَلْتَزِمْهُ، كَمَا يَقُولُهُ الَّذِينَ يُكْفِّرُونَ كَثِيرًا مِنَ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ، لَجَازَ الْحُكْمُ بِكُفْرِ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَوِّلِينَ الْمُحَرِّفِينَ، وَلَكِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ يَمْنَعُونَ مِنَ الْحُكْمِ بِالْكُفْرِ عَلَى الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ، فِيمَا يَتَأَوَّلُ فِيهِ مِمَّا هُوَ كُفْرٌ فِي نَفْسِهِ، وَيَعُدُّونَ مِنَ الْعُذْرِ بِالْجَهْلِ مَا لَا يَعُدُّهُ الْمُتَكَلِّمُونَ عُذْرًا.
وَقَدْ كَانَ الْإِذْنُ الْمُعَاتَبُ عَلَيْهِ اجْتِهَادًا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنَ الْوَحْيِ، وَهُوَ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسُوا بِمَعْصُومِينَ مِنَ الْخَطَأِ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْعِصْمَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا خَاصَّةٌ بِتَبْلِيغِ الْوَحْيِ بِبَيَانِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَيَسْتَحِيلُ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يَكْذِبَ أَوْ يُخْطِئَ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنْ رَبِّهِ أَوْ يُخَالِفَهُ بِالْعَمَلِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ طَلْحَةَ فِي تَأْبِيرِ النَّخْلِ إِذْ رَآهُمْ صلى الله عليه وسلم يُلَقِّحُونَهَا فَقَالَ: «مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا» فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَنَفَضَتِ النَّخْلُ وَسَقَطَ ثَمَرُهَا، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدْ صَرَّحَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ بِجَوَازِ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَالُوا: وَلَكِنْ لَا يُقِرُّهُمُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ بَلْ يُبَيِّنُ لَهُمُ الصَّوَابَ فِيهِ. وَمِنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ مِنْ عِتَابِ اللهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَخْذِ الْفِدْيَةِ مِنْ أَسَارَى بَدْرٍ، وَالْخَطَأُ هُنَالِكَ أَعْظَمُ مِمَّا هُنَا، فَغَايَةُ مَا فِيهِ هُنَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَزْمُ، وَكَانَ مِنْ لُطْفِ الرَّبِّ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ، بِرَسُولِهِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، أَنْ أَخْبَرَهُ بِالْعَفْوِ عَنْهُ، قَبْلَ بَيَانِهِ لَهُ، وَأَمَّا ذَاكَ فَقَدْ بَدَأَ عِتَابَهُ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ عَمِلَ بِرَأْيِ جُمْهُورِهِمْ فِي أَخْذِ الْفِدْيَةِ بِقَوْلِهِ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} (8: 67) ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُقْتَضِيًا لِعَذَابٍ أَلِيمٍ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ فَكَانَ مَانِعًا، وَسَنَذْكُرُ فَائِدَةَ أَمْثَالِ هَذَا الِاجْتِهَادِ وَالْخَطَأِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 47 وَهِيَ قَرِيبَةٌ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ نُكْتَةُ الِاخْتِلَافِ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الصَّادِقِينَ وَالْكَاذِبِينَ إِذْ عَبَّرَ عَنِ الْأَوَّلِينَ بِالِاسْمِ الْمَوْصُولِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، وَعَنِ الْكَاذِبِينَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ أَبُو السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: وَتَغْيِيرُ الْأُسْلُوبِ بِأَنْ عَبَّرَ عَنِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ بِالْمَوْصُولِ الَّذِي صِلَتُهُ فِعْلٌ دَالٌّ عَلَى الْحُدُوثِ، وَعَنِ الْفَرِيقِ الثَّانِي بَاسِمِ الْفَاعِلِ الْمُفِيدِ لِلدَّوَامِ؛ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ مَا ظَهَرَ مِنَ الْأَوَّلِينَ صِدْقٌ حَادِثٌ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ غَيْرِ مُصَحِّحٍ لِنُظُمِهِمْ فِي سَلَكِ الصَّادِقِينَ، وَأَنَّ مَا صَدَرَ مِنَ الْآخِرِينَ وَإِنْ كَانَ كَذِبًا حَادِثًا مُتَعَلِّقًا بِأَمْرٍ خَاصٍّ لَكِنَّهُ أَمْرٌ جَارٍ عَلَى عَادَتِهِمُ الْمُسْتَمِرَّةِ نَاشِئٌ عَنْ رُسُوخِهِمْ فِي الْكَذِبِ، وَالتَّعْبِيرِ عَنْ ظُهُورِ الصِّدْقِ بِالتَّبَيُّنِ، وَعَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْكَذِبِ بِالْعِلْمِ، لِمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ أَنَّ مَدْلُولَ الْخَبَرِ هُوَ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ احْتِمَالٌ عَقْلِيٌّ، فَظُهُورُ صِدْقِهِ إِنَّمَا هُوَ تَبَيُّنُ ذَلِكَ الْمَدْلُولِ، وَانْقِطَاعُ احْتِمَالِ نَقِيضِهِ بَعْدَ مَا كَانَ مُحْتَمِلًا لَهُ احْتِمَالًا عَقْلِيًّا، وَأَمَّا كَذِبُهُ فَأَمْرٌ حَادِثٌ لَا دَلَالَةَ لِلْخَبَرِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى يَكُونَ ظُهُورُهُ تَبَيُّنًا لَهُ بَلْ هُوَ نَقِيضٌ لِمَدْلُولِهِ، فَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ يَكُونُ عِلْمًا مُسْتَأْنَفًا، وَإِسْنَادُهُ إِلَى ضَمِيرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا إِلَى الْمَعْلُومِينَ بِبِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ مَعَ إِسْنَادِ التَّبَيُّنِ إِلَى الْأَوَّلِينَ، لِمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ هَاهُنَا عِلْمُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهِمْ، وَمُؤَاخَذَتُهُمْ بِمُوجِبِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِينَ؛ حَيْثُ لَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِمْ. وَمَنْ لَمْ يَتَنَبَّهْ لِهَذَا قَالَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ مِنْ صِدْقٍ فِي عُذْرِهِ مِمَّنْ كَذَبَ فِيهِ. وَإِسْنَادُ التَّبَيُّنِ إِلَى الْأَوَّلِينَ، وَتَعْلِيقُ الْعِلْمِ بِالْآخِرِينَ- مَعَ أَنَّ مَدَارَ الِاسْتِنَادِ وَالتَّعَلُّقِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ هُوَ وَصْفُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ- لِمَا أَنَّ الْمَقْصِدَ هُوَ الْعِلْمُ بِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ، بِاعْتِبَارِ اتِّصَافِهِمَا بِوَصْفَيْهِمَا الْمَذْكُورَيْنِ، وَمُعَامَلَتِهِمَا بِحَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمَا، لَا الْعِلْمِ بِوَصْفَيْهِمَا بِذَاتَيْهِمَا، أَوْ بِاعْتِبَارِ قِيَامِهِمَا بِمَوْصُوفَيْهِمَا. اهـ.
{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}.
ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِفُ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ (بَرَاءَةٌ)، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُمْ كُلَّهُمْ وَيَعْرِفُ شُئُونَهُمْ بِمِثْلِ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ التَّفْصِيلِ، كَمَا قَالَ اللهُ لَهُ فِي الَّذِينَ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} (9: 101) وَسَتَأْتِي فِي هَذَا السِّيَاقِ. إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ ذِكْرَ الْمُنَافِقِينَ وَبَعْضِ صِفَاتِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ جَاءَتْ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) مِنْهَا سُوَرُ الْمُنَافِقِينَ وَالْأَحْزَابِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَنْفَالِ وَالْقِتَالِ وَالْحَشْرِ، وَأَمَّا سُورَةُ (بَرَاءَةٌ) فَهِيَ الْفَاضِحَةُ لَهُمْ، وَالْكَاشِفَةُ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ نِفَاقِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ أَوَّلُ السِّيَاقِ فِي هَذَا الْبَيَانِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَمْرِ الْقِتَالِ، وَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِهَا.
قال عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} هَذَا نَفْيٌ لِلشَّأْنِ يُرَادُ بِهِ بَيَانُ الْوَاقِعِ فِي نَفْسِهِ فَلَا يُلَاحَظُ فِي الْفِعْلِ فِيهِ الزَّمَانُ الْحَاضِرُ أَوِ الْمُسْتَقْبَلُ الَّذِي وُضِعَ لَهُ الْمُضَارِعُ بَلْ يَشْمَلُهُمَا كَمَا يَشْمَلُ الْمَاضِيَ، كَمَا تَقُولُ: الصَّائِمُ لَا يَغْتَابُ النَّاسَ، وَالَّذِي يُزَكِّي لَا يَسْرِقُ، أَيْ: هَذَا شَأْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ الَّذِي كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ، وَالْيَوْمُ الْآخِرُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْأَجْرُ الْأَكْمَلُ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَلَا مِنْ عَادَتِهِمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ إِذَا عَرَضَ الْمُقْتَضِي لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ الَّتِي لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (49: 15) وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا فِي الْجِهَادِ بَلْ يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ وُجُوبِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، بَلْ هُمْ يَسْتَعِدُّونَ لَهُ فِي وَقْتِ السِّلْمِ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ مَنِ اسْتَطَاعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَهَلْ يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوكَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهُ، بَعْدَ إِعْلَانِ النَّفِيرِ الْعَامِّ لَهُ؟ كَلَّا، إِنَّ أَقْصَى مَا قَدْ يَقَعُ مِنْ بَعْضِهِمُ التَّثَاقُلُ وَالْبُطْءُ فِي مِثْلِ هَذَا السَّفَرِ الْبَعِيدِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا يَسْتَأْذِنُكَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ كَرَاهَةَ أَنْ يُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنَّ الْجِهَادَ لَا يَكْرَهُهُ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ الَّذِي يَرْجُو اللهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَيَعْلَمُ أَنَّ عَاقِبَةَ الْجِهَادِ الْفَوْزُ بِإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ: الْغَنِيمَةِ وَالنَّصْرِ، أَوِ الشَّهَادَةِ وَالْأَجْرِ، وَإِنَّمَا قَدْ يَسْتَأْذِنُ صَاحِبُ الْعُذْرِ الصَّحِيحِ مِنْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ قَبِلَ اللهُ عُذْرَهُمْ، وَأَسْقَطَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ فِي الْآيَتَيْنِ (91 و92) رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ إِلَخْ. يَعْنِي رَجُلًا أَعَدَّ فَرَسَهُ رِبَاطًا فِي سَبِيلِ اللهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَيْ: صَيْحَةً لِقِتَالٍ أَوْ فِي قِتَالٍ، أَوْ فَزْعَةً أَيْ: دَعْوَةً لِلْإِغَاثَةِ وَالنَّصْرِ فِيهِ طَارَ عَلَى فَرَسِهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ فِي مَظَانِّهِ، أَيِ: الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَظُنُّ أَنْ يَلْقَى الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ فِيهَا.
{وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} لَهُ بِاجْتِنَابِ مَا يُسْخِطُهُ، وَفِعْلِ مَا يُرْضِيهِ وَنِيَّتِهِمْ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا بِالتَّخَلُّفِ كَرَاهَةً لِلْقِتَالِ فَهُوَ يَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ، وَقَدِ اسْتَنْبَطَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الِاسْتِئْذَانُ فِي أَدَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَلَا فِي الْفَضَائِلِ وَالْفَوَاضِلِ مِنَ الْعَادَاتِ، كَقِرَى الضُّيُوفِ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، وَسَائِرِ عَمَلِ الْمَعْرُوفِ، وَيُعْجِبُنِي قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مَا مَعْنَاهُ: مَنْ قَالَ لَكَ: أَتَأْكُلُ؟ هَلْ آتِيكَ بِكَذَا مِنَ الْفَاكِهَةِ أَوِ الْحَلْوَى مَثَلًا؟ فَقُلْ لَهُ: لَا، فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُكْرِمَكَ لَمَا اسْتَأْذَنَكَ.
{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} هَذَا تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ مَا سَبَقَ؛ لِزِيَادَةِ تَأْكِيدِهِ وَتَقْرِيرِهِ، وَجَاءَ الْحَصْرُ فِيهِ بـ(إِنَّمَا) الَّتِي مَوْضِعُهَا مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى قَدْ عُلِمَ مِنْ مَفْهُومِ الْحَصْرِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ بَذْلَ الْمَالِ لِلْجِهَادِ مَغْرَمًا يَفُوتُ عَلَيْهِمْ بَعْضُ مَنَافِعِهِمْ بِهِ، وَلَا يَرْجُونَ عَلَيْهِ ثَوَابًا كَمَا يَرْجُو الْمُؤْمِنُونَ، وَيَرَوْنَ الْجِهَادَ بِالنَّفْسِ آلَامًا وَمَتَاعِبَ وَتَعَرُّضًا لِلْقَتْلِ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ حَيَاةٌ عِنْدَهُمْ، فَطَبِيعَةُ كُفْرِهِمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تَقْتَضِي كَرَاهَتَهُمْ لِلْجِهَادِ، وَفِرَارَهُمْ مِنْهُ مَا وَجَدُوا لَهُ سَبِيلًا، بِضِدِّ مَا يَقْتَضِيهِ إِيمَانُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} أَيْ: وَقَدْ وَقَعَ لَهُمُ الرَّيْبُ وَالشَّكُّ فِي الدِّينِ مِنْ قَبْلُ، فَلَمْ تَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ تُذْعِنْ لَهُ نُفُوسُهُمْ، وَإِنَّمَا الْإِيمَانُ هُوَ الْيَقِينُ الْمُقَارِنُ لِلْإِذْعَانِ وَخُضُوعِ النَّفْسِ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ مُتَحَرِّينَ فِي أَمْرِهِمْ، مُذَبْذَبِينَ فِي عَمَلِهِمْ، يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ يُوَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يَسْهُلُ أَدَاؤُهُ مِنْ عِبَادَاتِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُمْ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ ضَاقَتْ بِهِ صُدُورُهُمْ، وَالْتَمَسُوا التَّفَصِّيَ مِنْهُ بِمَا اسْتَطَاعُوا مِنَ الْحِيَلِ وَالْمَعَاذِيرِ الْكَاذِبَةِ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ حُضُورُ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْعَشَاءِ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ. وَسَيَأْتِي فِي بَيَانِ فَضَائِحِهِمْ: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)} وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ عَدَدَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ كَانَ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ الْمُسْتَأْذِنُونَ أَوِ الْمُتَخَلِّفُونَ مِنْهُمْ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (24: 62) وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَمَا أَرَى هَذَا الرَّأْيَ يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ فَإِنَّ سُورَةَ النُّورِ نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ بِالِاتِّفَاقِ. وَمَوْضُوعُ الِاسْتِئْذَانِ فِيهَا غَيْرُ مَوْضُوعِهِ هُنَا، وَإِلَّا كَانَتَا مُتَنَاقِضَتَيْنِ، فَآيَةُ بَرَاءَةٌ فِي الِاسْتِئْذَانِ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ، وَالْقُعُودِ عَنْهُ بَعْدَ النِّدَاءِ بِالنَّفِيرِ الْعَامِّ، وَآيَةُ النُّورِ فِي اسْتِئْذَانِ مَنْ يَكُونُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ- وَلْيَكُنْ مِنْهُ الْجِهَادُ- وَيَعْرِضُ لِأَحَدِهِمْ حَاجَةٌ يُرِيدُ قَضَاءَهَا، وَالْعَوْدَةَ إِلَى الْجَمَاعَةِ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ لَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا كَالَّذِينِ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَجَاءَتِ الْعِيرُ بِالتِّجَارَةِ فَانْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوهُ قَائِمًا يَخْطُبُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَجَابِرٌ الَّذِي أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ بَقِيَ مَعَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَسَبْعُ نِسْوَةٍ. وَفِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ نَزَلَتِ الْآيَاتُ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ فَصَارَ الْمُؤْمِنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ حَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَةٍ تَعْرِضُ لَهُمْ إِلَّا إِذَا اسْتَأْذَنُوهُ وَأَذِنَ لَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي آيَةِ بَرَاءَةٌ: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ (44)} الْآيَةَ. وَالْعَجَبُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ نَقَلُوا هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ سَكَتُوا عَنْ بَيَانِ هَذَا، مَنْ سَلَّمَ مِنْهُمُ الْقَوْلَ بِالنَّسْخِ وَمَنْ لَمْ يُسَلِّمْهُ؟.
وَحَكَى الرَّازِيُّ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ فِي قوله تعالى: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِذْنَ فِي مَاذَا، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَأْذَنَ فِي الْقُعُودِ فَأَذِنَ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَأْذَنَ فِي الْخُرُوجِ فَأَذِنَ لَهُ، مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ خُرُوجُهُمْ مِنْهُ صَوَابًا؛ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا عُيُونًا لِلْمُنَافِقِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَانُوا يُثِيرُونَ الْفِتَنَ وَيَبْغُونَ الْغَوَائِلَ؛ فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا كَانَ خُرُوجُهُمْ مَعَ الرَّسُولِ مَصْلَحَةً.
قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ لِلْمُتَخَلِّفِينَ وَالْمَدْحِ لِلْمُبَادِرِينَ، وَأَيْضًا مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ الْقَاعِدِينَ وَبَيَانِ حَالِهِمُ انْتَهَى مَا نَقَلَهُ الرَّازِيُّ عَنْهُ وَعَنِ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ وَكِلَاهُمَا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْخُرُوجَ إِلَى الْجِهَادِ مَا كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ بَعْدَ إِعْلَانِ النَّفِيرِ فَيَسْتَأْذِنُوا لَهُ. وَأَمَّا كَوْنُ خُرُوجِهِمْ مَفْسَدَةً فَهُوَ صَحِيحٌ، وَسَيَأْتِي النَّصُّ عَلَيْهِ (فِي الْآيَةِ 47) وَلَكِنَّ أُولَئِكَ الْمُسْتَأْذِنِينَ لَمْ يَكُونُوا يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي عَدَمِ الْإِذْنِ لَهُمْ؛ لِيَنْكَشِفَ سَتْرُهُمْ، فَيَعْرِفُ النَّبِيُّ وَالْمُؤْمِنُونَ كُنْهَ أَمْرِهِمْ، وَيُثْبِتُ هَذَا قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} مِنَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ لِمِثْلِ هَذَا السَّفَرِ الْبَعِيدِ، وَكَانُوا مُسْتَطِيعِينَ لِذَلِكَ، وَلَمْ يَفْعَلُوا كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ}، الِانْبِعَاثُ: مُطَاوِعُ الْبَعْثِ وَهُوَ إِثَارَةُ الْإِنْسَانِ أَوِ الْحَيَوَانِ، وَتَوْجِيهُهُ إِلَى الشَّيْءِ بِقُوَّةٍ وَنَشَاطٍ كَبَعْثِ الرُّسُلِ، أَوْ إِزْعَاجٍ كَبَعَثْتُ الْبَعِيرَ فَانْبَعَثَ، وَبَعَثَ اللهُ الْمَوْتَى. وَالتَّثْبِيطُ: التَّعْوِيقُ عَنِ الْأَمْرِ، وَالْمَنْعُ مِنْهُ بِالتَّكْسِيلِ أَوِ التَّخْذِيلِ، وَلَمْ تَرِدْ فِي التَّنْزِيلِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْمَعْنَى: كَرِهَ اللهُ نَفِيرَهُمْ وَخُرُوجَهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِمَا سَيُذْكَرُ مِنْ ضَرَرِهِ الْعَائِقِ عَمَّا أَحَبَّهُ وَقَدَّرَهُ مِنْ نَصْرِهِمْ، فَثَبَّطَهُمْ بِمَا أَحْدَثَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَوَاطِرِ وَالْمَخَاوِفِ الَّتِي هِيَ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي تَأْثِيرِ النِّفَاقِ، فَلَمْ يَعُدُّوا لِلْخُرُوجِ عُدَّتَهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوهُ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِالِاسْتِئْذَانِ سَتْرَ مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعِصْيَانِ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ فِي هَذَا الْقِيلِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَمْثِيلٌ لِدَاعِيَةِ الْقُعُودِ الَّتِي هِيَ أَثَرُ التَّثْبِيطِ، وَفِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَمْرٌ قَدَرَيٌّ تَكْوِينِيٌّ لَا خِطَابٌ كَلَامِيٌّ.